Monday, December 1, 2008

كتاب .. “عالم الغيطاني” لد. سعيد توفيق

من فصل :
تجليات الوجود الأنثوي في ” خلسات الكرى “

…….

الشكل الفني والرؤية الجمالية:
أول ما يواجهنا في أي عمل هو شكله الفني. وعمل الغيطاني هنا يضعنا منذ البداية في مواجهة قضية الأنواع الأدبية ويطرحها بقوة. نحن أمام عمل أدبي يبدو لنا على أنه رواية، ولكننا منذ الصفحات الأولى ندرك من فورنا أننا لسنا أمام رواية بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، وهو انطباع سوف يتأكد بقوة كلما أوغلنا في العمل: أعني أننا لن نجد هناك بناءً دراميًّا تتفاعل فيه الشخصيات وتتصاعد الأحداث في تراتب زمني منطقي؛ بحيث نجد كل فصل فيه مرتبطًا ارتباطًا ضروريًّا بما يسبقه وبما يليه، ليبلغ نهاية معينة. هل نحن، إذن، أمام مجموعة قصص قصيرة؟ إننا نجد مجموعة من الفصول، الفصل الواحد يمكن قراءته والاستمتاع به بوصفه كيانًا قائمًا بذاته، ولكن ما إن نتابع قراءتنا لكل فصل تلو الآخر؛ حتى نشعر بأن هناك خيطًا مشتركًا بينهما يشدها بعضها إلى بعض، فهي منفصلة ومتصلة في وقت واحد.

ومن ناحية أخرى، فإنه ربما يحق لنا أيضًا أن نتساءل: هل نحن أمام شكل من أشكال السيرة الذاتية؟
فعبر فصول العمل، يتحدث المؤلف بضمير المتكلم ليسرد لنا تفاصيل ومواقف من حياته الخاصة، لا باعتباره ساردًا متخيلًا، وإنما باعتباره ساردًا واقعيًّا، أعني باعتباره جمال الغيطاني .. ذلك الأديب الذي نعرفه نحن القراء. فهو يتحدث - على سبيل المثال - عن زيارات فعلية قام بها لبلدان عديدة، وعن الأماكن الفعلية التي زارها، وعن أشخاص واقعيين يعرفهم القرَّاء مثل صديقيه محمود البدوي وشادي عبد السلام من الراحلين (1) ، فضلًا عن أصدقاء آخرين أعرفهم شخصيًّا - مثلما يعرفهم غيري- معرفة وثيقة مثل: أحمد الفلاحي وآل الرحبي من عمان(2).

هناك، إذن، مشروعية ما في أن نتحدث عن طابع القصة القصيرة في عمل الغيطاني، مثلما أن هناك مشروعية ما في أن نتحدث عن طابع السيرة الذاتية فيه. بل إننا نستطيع أيضًا أن نتحدث عن المكون الشعري داخل هذا العمل، وتلك مسألة أخرى سنعود إليها في سياق آخر. هل معنى ذلك أن هذا العمل يقدم لنا برهانًا عمليًّا على إسقاط الحدود بين الأنواع الأدبية؟

الواقع أن الغيطاني في هذا العمل كان يمارس دائمًا نوعًا من الانتهاك المشروع للحدود بين الأنواع الأدبية، وهو كان يفعل ذلك بتلقائية إبداعية وبحسن نية المبدع أو نزاهته الجمالية. ومسألة انتهاك الحدود بين الأشكال الفنية والتلاعب بها، بل تشويهها أحيانًا، ليست بالمسألة التي ينبغي أن تشغلنا باعتبارها أمرًا خطرًا على العملية الإبداعية؛ فمكمن الخطورة يأتي من محاولات بعض الأدباء من الشباب الذين تشغلهم قضية العصف بالشكل الفني من دون أن يكون هناك قوام فني أدبي أو رؤية جمالية إبداعية وراء ذلك، أعني تشغلهم قضية الشكل على حساب الرؤية الجمالية التي يمكن أن يطرحها الشكل نفسه باعتباره أسلوبًا لرؤية الأديب (أو الفنان عمومًا) للحياة وللعالم، بل للوجود ذاته في أحد تجلياته.

إن التداخل والتأثير التبادلي بين الأشكال الفنية للأنواع الأدبية أصبحا الآن أمريْن واقعيْن؛ فملامح هذه الأشكال أو حدودها ليست حدودًا محرمة ولا تابوهات لا يجوز انتهاكها، بل إن هناك مجالًا للقول بأنه منذ فترة ليست بقصيرة قد أصبح التداخل بين الأجناس الفنية ذاتها أمرًا واقعًا: ويمكن المرء أن يسترجع على سبيل المثال - كيف تأثرت حركة الشعر الخالص مع ملارميه، والحركة التعبيرية التجريدية في فن التصوير، بالثورة التي حدثت في مجال الموسيقى ونزوعها نحو التعبير الخالص، من خلال موسيقى الآلات ، أي من خلال الموسيقى الخالصة أو المطلقة.
كل هذا صحيح. ومع ذلك، يبقى لكل جنس فني، ولكل نوع أدبي، قوامه الخاص. فما الذي يبقى من عمل الغيطاني ويحفظ عليه قوامه كعمل أدبي؟

على الرغم من أن كل فصل من العمل يمكن قراءته والاستمتاع به في ذاته، فإن متعتنا تتأسس على نحو كلي وأكثر عمقًا عندما نتابع قراءتنا للعمل ككل؛ إذ نشعر عندئذ بوضوح بأن هناك خيطًا متينًا يربط هذه الفصول بعضها ببعض.. تيمة تتردد أصداؤها في أنحاء العمل؛ بحيث يبدو كل فصل كما لو كان تنويعًا على هذه التيمة وإثراءً لها.

في كل فصل مكان أليف له زمانيته الخاصة، انبثق فيه خلسة كيان أنثوي طاغٍ استولى على كيان صاحبنا كطيف أو حلم جميل من ذلك النوع الذي ينتشلنا لحظيًّا من وجود واقعي غفل رتيب متناهٍ. والغيطاني يستدعي هذه الأطياف بفعل حالة يسميها “التحنين” بمعنى استدعاء الشوق والحنين، متمنيًا لو كان لها دوام وبقاء، فهو يتمنى لو كان بإمكانه تثبيت هذه اللحظة التي يبدو فيها الوجود مكتملًا، ولكنها تمر من دون أن يكون في مقدورنا أن نبقيها أو ننهل منها، فليس أمامنا وقد مر العمر سوى الاستدعاء أو التحنين والترقب الدائم لهذه اللحظات. يقول في أول سطور روايته:
“ما تبقى أقل مما مضى.
يقين لا شك فيه، أعيه. أتمثله، أعيشه. فلماذا أبدو مبهوتًا، مباغتًا كأني لا أعرف. مع أنني المعنيُّ والمطويُّ والماضي إلى زوال حتمي؟ لا أتوقف عن إبداء الدهشة، لا أكف عن التساؤل إن بالصمت أو بالنطق..
لماذا يسرع الإيقاع مع قرب التمام؟
لماذا تنشط الخطى وتسرع الحركة عند الدنو؟
لماذا يقوى العزم عند قرب نفاد الطاقة؟
لماذا يقع التوثب مع صلصلة أجراس الرحيل؟
لماذا تكون أقصى درجات اللمعة قبيل الانطفاء؟
لنا في توثب واندلاع لهب الشمعة أسوة وعبرة، أما ذروة ضجيج الآلة المحركة في الطائرة أو الناقلة البحرية قبل الكف مباشرة ..
إدراكي غشاني وانتباهي قضَّني”
التحنين، إذن، هو أصل استدعاء هذه الأطياف ومحاولة استبقائها في تيار الوعي. وهذه الأطياف متعلق أمرها بالمرأة، بالكيان الأنثوي الطاغي. ولكن ما هي المرأة هنا، وما ذلك الكيان الأنثوي الطاغي. يقول:
“ليس الجمال الأنثوي إلا إشارة وتلميحًا إلى عذوبة الكون المتكون بالفعل والمحتمل أيضًا. أنفقت عمري في التشوف إليه، غير أنني لم أرتو ولم أنل حظي”

No comments: