Monday, December 1, 2008

رواية الباخرة كليوباترا من دار ميريت

الفصل الثامن
( يرويه الأمير أنور عرفان عثمان اغلو) كنت في صغري اتعلم علي يد شيخ يحفظني القرآن و يعلمني بعض امور الدين. و في يوم روي علي حديث: ” ارحموا من الناس ثلاثة‏:‏ عزيز قوم ذل، وغنى قوم افتقر، وعالما بين جهال‏” و دمعت عينيه للحظة. كنت ساعتها في الرابعة عشر من عمري و كنت علي استيعاب لما يجري من امور حولي. كان الشيخ يرثي لحالي و لحال الأسرة التي ينقض حكمها الطويل و العريق للبلاد. و سرعان ما انتهت السلطنة و بقيت الخلافة.. الا ان الأمور كانت تسير الي الأسوأ.. و بالفعل و في 3 مارس 1924 تم طرد الخليفة عبدالمجيد الثاني و معه كل اعضاء الأسرة المالكة من امبراطورية اجدادهم.. لقد انتهي عهد العثمانين.. انتهي حكم العائلة التي انتمي اليها..
و انفرط عقد العائلة التي كانت تستعمر كل بقعة في اسطنبول.. و خلف خليفة المسلمين (سابقا) اخذنا والدي الي فرنسا، حيث سكنا في بيت صغير في وسط باريس. كنا وقتها اسرة سعيدة، اخذ الله منها السلطة و الغني، لكنها ميسورة الحال و كل افرادها في افضل حال. كانت امي لاتزال علي قيد الحياة، و اخي الأكبر مازالت الدماء في عروقه حارة. أفتتح ابي تجارة له في وسط باريس.. كان كل شئ علي مايرام حتي سقطت امي فجاءة. لقد انقض عليها السرطان حتي تركها جثة هامدة.. لم تمر السنة حتي انقلب حال الأسرة تماما. لقد تدهور حال ابي و تدهورت تجارته بشكل كبير. و كان الأنهيار الأقتصادي لعام 1929 هو الضربة القاضية.. صحيح ان فرنسا كانت من اقل الدول تضررا، الا ان الضربة كانت قاصمة لكثير من التجار و منهم ابي. و مرغمين تحت وطأة الدين انتقلنا من بيتنا الجميل الي شقة ضيقة في احدي الضواحي الفقيرة بباريس. كانت اسرتنا في اسوأ حالاتها.
و في يوم من الأيام، كان ابي نشيطا علي غير العادة.. عاد من الشارع و معه طعام الأفطار.. أعد لنا الأفطار، فتح البلكون و أدخل طاولة صغيرة الي داخلها..
- هيا.. هلم فليأت كل منكم بكرسيه.. لنتناول الأفطار هنا في الشمس..
كان الدهشة بادية علي وجوهنا، الا ان اخي بايزيد هو من نطق..
- خيرا يا ابي.. تبدو سعيدا..
هز ابي رأسه مغتبطا..
- اظنني كذلك..
و اخذنا كراسينا و اجتمعنا ثلاثتنا حوله، انا و بايزيد اخي الأكبر و عاتكة اختي الصغري. افطرنا في هدوء. أخيرا تكلم..
- تعرفون ان ابي هو السطان مراد الخامس.. لكن هل تعرفون من كان الجد المشترك بيني و بين والدتكم؟
- السلطان محمود الثاني..
قلناها في نفس واحد.. انه تاريخ العائلة..
- انها حفيدته من ابنته الأميرة نهال..
هكذا اكمل بايزيد في بساطة.. ربت ابي علي ركبته في سرور.. ثم اطلق مفاجأته..
- و هل تعرفون انه قد اهدي ابنته الأميرة نهال مجموعة مجوهرات ثمينة من اربع ماسات نادرة.. اصغر واحدة منها تبلغ 45 قيراطا في حين تتجاوز الكبري 60 قيراطا..
و كانت مفاجأة
- و هل تعرفون ان هذة المجموعة لا تقدر بثمن لأنها كانت ضمن مجموعة مجوهرات علي باشا التبدليني..
- صاحب ماسة صانع الملاعق.. تلك الماسة المهولة بقصر توبكابي..
- انه هو.. لو يذكر احدكم اي شئ عنه سيعلم ان علي باشا هذا كان قد تمرد علي السلطنة، لذلك قام السلطان محمود بالقضاء عليه و تمت مصادرة كل ممتلكاته و منها مجموعات مجوهراته.. ماسة صانع الملاعق ذهبت الي الخزينة الأمبراطورية..
- و ..
- و مجموعة الماسات الأربع اهداها الي ابنته نهال.. و لذلك تعرف المجموعة بأسم مجموعة الأميرة نهال..
قام اخي مذهولا و قد ذهبت الدماء من وجهه
- و بالطبع هذه المجموعة تساوي الكثير..
- لا تقدر بثمن..
- و اين هي؟
- لما كانت امك هي الأبنة الوحيدة للأميرة نهال فمن طبيعة الأمور ان تؤول لوالدتك..
- و اين هي اذن؟
هز كتفيه في ضيق
- كانت في قصرنا بأسطنبول، ضمن مجوهرات والدتك، حتي قامت الحرب العظمي..
اعتري وجه اخي تعبير عصبي قوي
- و ماذا حدث بعد ذلك؟
- أختفت..
- أختفت !!!!
- نعم.. اختفت كما اختفت عائلة نازريان..
- نازريان.. الأرمن الذين كانوا يخدمون في القصر..
هز ابي رأسه مؤمنا.. بدا العجب علي أخي
- لكني كنت كبيرا في الوقت الذي تركنا فيه آل نازريان.. كنت في الثامنة عشر من عمري.. لا اذكر ذكركم لموضوع السرقة هذا..
- مجموعة الأميرة نهال كانت سرا نخفيه عن الكثير من العائلة العثمانية خوفا من مطالبة بعض ورثة السلطان بنصيب في المجوهرات.. مابالك لو علم اوغاد تركيا الفتاة.. لو ابلغنا بسرقة هذه المجموعة، كانوا سيقبضوا علي آل نازاريان و يستردون المجموعة الماسية، لكن المجموعة كانت ستذهب الي خزينة الدولة دون شك.. لذلك ابقينا موضوع السرقة سرا بيننا انا و امك..
- ماذا؟ و تركتم هؤلاء الأرمن الأوغاد يفرون بممتلكاتكم..؟
- بالطبع لا.. كلفت معارفي في الشرطة و ذوو النفوذ لتتبع آل نازريان حتي اصل اليهم بنفسي و استرد الماسات.. لكن الأمر كان في غاية الصعوبة.. لقد آتي شهر يونيو بسرعة..
- و ماذا حدث في يونيو؟
- في 29 مايو 1915 أمر طلعت باشا رئيس الوزراء ببدء التهجير الأجباري للأرمن من الأناضول.. و فجأة اصبح الأرمن في كل بقعة علي الطريق.. و لم يعد البحث عن اسرة ارمينية هاربة شيئا ممكنا وسط هذا الحشد الرهيب من الألاف من الأرمن النازحين..
نظرت اختي اليه في حسرة
- و هكذا انتهت قصة مجموعة الأميرة نهال..
- حتي هذا الصباح..
اخيرا نطقت انا..
- و ماذا حدث هذا الصباح؟
- كنت اتحدث مع جاك ابن مسيو رينالد.. صاحب مكتبة الكتب القريبة.. كان جاك هذا مجندا حتي وقت قريب ضمن القوات الفرنسية بالشام.. كنت اتحدث معه عندما امسك فكه فجأة.. و ذكر ان احدي ضروسه تؤلمه.. و تمني لو وجد طبيبا يداوي ضرسه يكون في مهارة الدكتور الأرميني الذي عالجه في حلب. ثم تذكر موقفا كوميديا حدث له مع احد العاملين بالعيادة، ارميني يدعي نازريان..
و اتسعت أعيننا في ترقب..
- طلبت منه وصف ذلك النازريان.. و عندما وصفه لي، لم يكن لدي شك في انه فانو نازريان.. الأبن الأكبر لتلك العائلة السارقة..
كانت الحماسة قد تملكت أخي و أختي، لكن حماسة العثمانين هذه كانت اقل كثافة في دمائي، لذلك كانت تغمرني الشكوك بسرعة.. لكني صرحت بها في حياء
- اذا؟
نظر ابي الي غاضبا
- اذا.. اذا اسافر من غدي الي حلب هذه و اخذ ماساتنا من هؤلاء الأوغاد..
خفضت رأسي خجلا
- و ما الذي يدفعهم الي اعادتها اليك.. لو كان بنيتهم اعادتها لما سرقوها اول الأمر.. هل لديك دليل يدفع السلطات هناك لأجبارهم علي أعادة الماسات المسروقة؟
و اسقط في يد والدي، و كأنما لم يخطر بباله شئ من هذا القبيل.. لقد وجد آل نازريان، اذا لقد عادت اليه ماساته.. لقد نسي، في غمرة فرحته، انه لم يعد لديه نفوذ الأمير العثمانلي..
و هنا قام بايزيد.. كانت عينيه صارمتين قويتن، ظهره مفرود و رأسه عالية، كما يليق بسلسيل اسرة السلاطين..
- لن تذهب انت يا ابي.. انا من سيذهب..
- لكن كيف ستحصل علي المجوهرات..
- سأحصل عليها هكذا..
و قبض يمناه في شده..
كان بايزيد فخر الأسرة العثمانلية.. كان بطلا في المبارزة.. و كان ليشارك في اولمبياد برلين 1916 لولا ان قامت الحرب العظمي، و في اولمبياد انتورب 1920 لولا استبعاد تركيا من الأشتراك شأنها شأن الدول المنهزمة في الحرب الأخيرة.. كان أخي رجلا قويا الي حد بعيد.. كان لا يظهر قوته هذه في اي مكان يتواجد فيه، كأمير ذو رباية عالية، لكنه كان يعرف انها هناك ليستخدمها حين الحاجة.. و من منظره بدا ان وقت الحاجة اليها قد اتي..
**********************
و بالفعل سافر اخي الي حلب اوائل العام 1930..
و هناك وجد انه قد اقدم علي اكبر حماقة في حياته.. او هكذا قال في خطابه الأول لنا..
” .. اكبر حماقة في حياتك ان تأتي الي مكان لا تعرفه و لا تعرف ما تبحث عنه بالضبط.. لا احد هنا في حلب يعرف طبيب اسنان بأسم استيبان.. يبدو ان الجندي الفرنسي هذا لم يذكر الأسم جيدا كما تذكر اسم نازريان.. لكني استطعت ان استعين بتاجر من اصل تركي وجهني الي مشفي لطبيب يدعي آصادور الطونيان هو من قدامي الأرمن في حلب.. كانت مقابلة الرجل لي باردة الي حد بعيد عندما عرف بأصلي التركي.. لم يتعرف هو الأخر علي طبيب الأسنان، لكنه تعرف فانو نازريان لأنه عمل عنده منذ فترة بعيدة.. اما اين هو الأن فهو لا يعرف عنه اي شئ..”
و بدأ والدي يحس بحماقته هو الأخر لبعثه بأبنه الي المجهول.. انتابته نوبة اكتئاب لبث فيها مدة حتي و صله خطاب بايزيد الثاني بعد ستة اشهر..
” .. انه في مصر.. لقد توصلت اخيرا الي الحي الذي كان يسكن فيه آل نازريان.. كانا الأب وابنه فقط.. الأب مات.. اما الأبن فقد سافر منذ خمس سنوات الي مصر.. لقد نفذ المال معي هنا، لكني أستطعت ان اتوظف عند شركة نقل بحرية، صاحبها تركي.. الرجل سعيد جدا بتوظيفي و يتباهي امام عملائه بتوظيفه امير من الأسرة العثمانلية.. ان هي الا بضعة اشهر و أجمع مالا كافيا يعينني علي السفر.. اتوقع ان اسافر في اوائل ربيع العام الجديد..”
و بالفعل كان الخطاب التالي في مارس 1931
” .. اكتب اليكم هذا الخطاب بعد ان جهزت حقيبة السفر.. لقد اجهدوني هؤلاء النازريان بشدة.. ان اول شئ اقوم به بعد لقاء ابنهم هذا هو لكمة قوية الي فكه.. “
و انفطعت اخبار بايزيد تماما.. و مرت السنون.. و في هذه الأثناء بدأت تتدهور صحة أبي، كما تدهورت تجارته.. كان العام 1934 هو الأسوأ.. اندلعت احداث الشغب في انحاء باريس.. و مثل كثيرين اضطر ابي الي اشهار افلاسه..كنت قد انهيت دراستي الحقوقية و التحقت بمكتب محاماة.. كان دخلي معقولا يكفيني انا و ابي و اختي.. كانت معيشة القصور بمثابة ذكري محبطة.. و اما الحنق الأساسي فكان وليد قلقنا علي بايزيد..
و في اواخر العام 1937، كان مرض ابي قد وصل الي نقطة اللاعودة.. و مات ليلة رأس السنة الجديدة.. كان الجميع يحتفل في الخارج، في حين امضيت انا و عاتكة الليلة نبكي فقدان السند الوحيد لنا في هذا العالم..
و في منتصف فبراير من العام الجديد 1938 ، استلمت خطابا جديدا من بايزيد..
“..لقد وجدت فانو نازريان

No comments: